الطوفان لليوناردو دا فنشي

تخطيط ينبه فيه نفسه على ما ينبغي له صنعه بلوحة مات دونها، ترجمه أنور المشري العربي عن سيرجي إيزنشتاين الروسي الذي ترجمه عن بيلاردين الفرنسي الذي ترجمه عن ليوناردو دا فنشي الإيطالي!

“دع الهواء المظلم الكئيب يبدو مهزوما أمام اندفاع الرياح المضادة المحاطة بالمطر الدائم المختلط بالبرد والتي تحمل هنا وهناك قدرا كبيرا من غصون الأشجار المحطمة مختلطة فيما بينها بعدد لا نهاية له من أوراق الأشجار!
ولنر في كل ما حولنا أشجارا عتيقة انتزعت من أصولها ومزقتها غضبة الرياح مزقا صغيرة!
ويجب أن توضح كيف تسقط أجزاء من الجبال التي عرتها بالفعل السيول الجارفة المندفعة سقوطا مباشرا وسط هذه السيول الجارفة نفسها فتزحم الوديان وتخنقها حتى ترتفع الأنهار المحبوسة وتفيض وتغطي السهول الواسعة بما فيها من سكان.
وقد نرى مرة ثانية أنواعا كثيرة مختلفة من الحيوانات وقد تراكم بعضها فوق بعض على قمم الكثير من الجبال بعد أن استبد بها الرعب وخضعت أخيرا لحالة من الألفة في رفقة الرجال والنساء الذين هربوا إلى هذه القمم مع أطفالهم.
أما في الحقول التي أغرقتها المياه فنرى الأمواج مغطاة في كثير من أجزائها بالمناضد والمراقد والقوارب وأنواع أخرى مختلفة من الأطواف أعدت على عجل نتيجة للضرورة والخوف من الموت ويتكتل فوقها الرجال والنساء مع أطفالهم وهم يصدرون الصرخات المختلفة والنواح والعويل وقد أفزعهم غضب الرياح التي تدفع المياه أمامها وتديرها وتديرها في صورة إعصار هائل حاملة معها أجساد الغرقى ولا يوجد جسم طاف على سطح الماء إلا وغطته الحيوانات المختلفة المتباينة التي تهادنت فيما بينها وتكومت بعضها فوق بعض في رعب ومن بينها الذئاب والثعالب والثعابين ومخلوقات من كل نوع وكلها هاربة من الموت.
أما الأمواج التي تصطدم بجوانبها فهي إنما توجه إليها اللطمات المتعاقبة من أجساد الغرقى المختلفة فتقتل الضربات من بقيت فيهم حياة!
وفي استطاعتك أن ترى بعض جماعات من الرجال يحملون أسلحتهم في أيديهم ويدافعون بها عن مواطئ الأقدام الضيقة التي بقيت لهم ضد الأسود والذئاب والحيوانات المفترسة التي راحت تنشد السلامة في هذه المواطئ.
آه!
أية ضجة مخيفة يسمعها المرء تدوي خلال الهواء الكئيب إذ تقرعه غضبة الرعد والبرق الذي يرسله وميضا فينطلق مخترقا الهواء يحمل الدمار ويحطم كل ما يقف في طريقه!
آه!
يا لكثرة من يسدون آذانهم بأيديهم ليصموها عن سماع الزئير العالي الذي تحدثه في الهواء المظلم غضبة الرياح مختلطة بهطول الأمطار برعد السماوات وهياج الصواعق!
ولا يكتفي الآخرون بقفل عيونهم إنما يضعون أيديهم فوقها اليد فوق الأخرى ليحكموا قفل عيونهم كيلا يروا غضب الله وهو يخسف بالجنس البشري خسفا لا رحمة فيه.
آه!
يا للنحيب ويا للعويل!
كم من الناس ألقوا بأنفسهم من فوق الصخور في نوبة الرعب التي أصابتهم!
وفي استطاعتك أن ترى الفروع الضخمة لأشجار البلوط العملاقة محملة بالرجال تطير في الهواء من غضبة الرياح العنيفة العاصفة.
وكم من قوارب انقلبت وسلم بعضها وتحطم البعض الآخر أجزاء ورقدت فوق رؤوس رجال يصارعون في سبيل الفرار منها بأفعال إيماءات يأس تنبئ بميتة بشعة!
وآخرون يقتلون أنفسهم بأنفسهم بأفعال جنونية يأسا من أن يستطيعوا احتمال مثل هذا العذاب: كان بعض هؤلاء يلقون بأنفسهم إلى الماء من فوق الصخور العالية، وآخرون يخنقون أنفسهم بأيديهم، والبعض يمسك بأطفاله يذبحهم في عنف شديد بضربة واحدة، ويدير البعض أذرعتهم إلى أجسادهم يبغون تمزيقها وتقطيعها، ويركع آخرون على ركبهم مسلمين أمرهم لله.
يا للأسى!
كم من الأمهات يندبن أبناءهن الغرقى وهن يحملنهن فوق ركبهن ويرفعن أذرعا ضارعة إلى السماء يناشدن السماء ويضرعن لها بصرخات وصيحات مختلفة أن تكف عنهن غضب الآلهة!
ويروح آخرون يعضون وينهشون أيديهم المتقبضة وأصابعهم المتشابكة عضات تسيل لها الدماء وهم جاثون مهدلون على الأرض إلى حد أن تمس صدورهم ركبهم مما هم فيه من عذاب حاد لا يحتمل.
وتستطيع أن ترى جحافل الحيوانات كالخيول والثيران والماعز والأغنام وقد أحدقت بها المياه بالفعل وعزلتها فوق قمم الجبال العالية فتكوم بعضها فوق بعض ويحاول الواقف منها في الوسط الصعود إلى القمة فيطأ الآخرين بأقدامه فتنشأ المعارك الوحشية فيما بينها ويهلك الكثير منها جوعا.
أما الطيور فقد بدأت تحط بالفعل فوق الرجال والحيوانات الأخرى إذ لم تعد تجد بقعة لم تغمرها المياه أو تغطها الكائنات الحية!
وكان الجوع وسيلة الموت قد انتزع بالفعل الحياة من عدد كبير من الحيوانات في نفس الوقت الذي كانت فيه الأجساد الميتة التي دب فيها العفن قد ارتفعت من الأعماق وطفت وراحت تصطدم بعضها ببعض كعدد كبير من الكرات المنفوخة ثم ترتد من حيث اصطدمت بغيرها لتتراكم فوق أجساد من لقوا حتفهم لتوّهم.
والجو بالإضافة إلى كل هذه المفازع يبدو وقد غطته السحب الداكنة التي يشقها المجرى المعرّج للصواعق الهائجة الهابطة من السماء التي تومض بالنور هنا وهناك وسط عتمة الظلام”.





Related posts

Leave a Comment